هُناك بعيدًا عن الواقع، قَريبًا مِنها، كانت فضّة، بل ما زالت...

الليدي كوين-فضة شبايطة
الليدي كوين-فضة شبايطة

الليدي كوين - فضة شبايطة

حطّينُ طبريا مِنَ العامِ ألفٍ وتِسعُمائةٍ وتِسعة وثلاثون ولدت الحاجة فضة شبايطة بينَ أجنابِ قريةٍ لا يتجاوز عَدَدُ سُكّانها الألفَ نَسَمةٍ على مساحةٍ تجاوزت الاثنين وعشرين كيلو متر مربّع!

ولمْ تَكن إبنةُ كانون الثاني تعلم عن رحلتها الطويلة التي لا شاهد عليها سوى ما رُسِمَ على مُحيّاها، وما أخفتهُ عيناها !

فبعدَ تِسعِ سنواتٍ فقط بدأ التاريخ الذي تعتبره فضة عدوّها الوحيد فهو المُرهق الرئيس لحدود تلك الدولة، وتحديدًا في السادس عشر من يوليو للعام ألفٍ وتِسعمائةٍ وثمانيةٍ وأربعون، حيث بدأ المستقبل يُرسم بطريقةٍ مُغايرةٍ ومُخالفةٍ لما حَلِموا، بدأت هجرتُهم!

وبعدما عاشت ما عاشت من نكبة الهجرة ومرارتها؛ حطّت بها الرِحال في أرض مخيمٍ لا يَكادُ يَملكُ من الصِغَرِ اسمًا حتّى، في الجنوب اللبناني، نعم هنا عين الحلوة حَيثُ لم ترى الحاجة الاسم إلّا أُضحوكةً يُوهَمُ بها العالم، من ألفٍ إلى خمسةِ عَشَرَ ألفٍ يتقاسمون مَرارة المُخيّم، ولكن وبالرغم من ذلك لا شكَّ بأنّهم سوف يُرحِّبون بك في عاصمة الشتات الفلسطيني.

تتابعت الأيامُ وتتالت إلى أن أصبحت فضة أُمّاً لسبعةٍ من الأبناء، خمسٌ كانت تعوِّلُ عليهم في حُلُمِ العودة واثنتان بجمال فلسطين، إلّا أنَّ المخيم رفض أن يُبقي سعيداً فيه ولا حتى من يفكّر أو يَحلُم، كان شبحاً يُطاردها حتى في آمالها وأحلامها فكانت الحمّى رفيقةَ أربعةٍ منهم، رفيقةُ سوءٍ ولدت من رحم المعاناة ونقصِ أدنى مُتطلباتِ الحياة.

وكانت تُدرك أنّها مُقبلةٌ على المزيد المزيد من الآلام والنَكَسات، فاستشهادُ زوجها في الاجتياح الإسرائيلي عامَ ألف وتسعمائة واثنان وثمانون كان نقطةً فارقةً في حياة سيّدة الهجرة فها هي قد فَقَدت حَجَرَ الأساس الذي بَنَت عليه جزءاً مِمّا قيل والكثيرَ مِمّا أُخفي،فما مِن مُعيلٍ لخيبات الأطفال الأربع الذين تفاقمت أعراضُ أمراضِهم لتصلَ حدَّ العجزِ عن النُطق والسَير سوى هذا الجبل الرقيق.

فكان الجبلُ راسخاً بمعونة اللَّه، صامدًا يُثبِّتُ مِن حولِه أرواحًا تعلّقت به للنجاة من كوابيس المخيم، وتتابعت الأيام حتّى جاء العامُ الفين وثلاثة عشر حاملًا في طيّاتِه بداية التَصدّع لصخورِ جبلٍ شامخ، الحاجة تفقد أساساتِها مرةً أُخرى، فلذة كبدِها يُفارق الحياة بين أحضانها وعلى مرأً من الجميع تَتَسلَّحُ بالقوة عَلنًا مُنطِقَةً إياه الشهادتين كمن يُعلِّمُ طِفلَه الحديثَ أوَّل مرةٍ حرفاً حرفاً وكلمةً كلمة!

وما أن تداركت الألمَ الَّذي حلّ بها حتّى أكل الدهرُ منها أربعةً أُخرى من الأعوام البائسة، فاقدةً ثاني أبنائها في العامِ الفين وسبعة عشر، لكنَّ ما كان وما سيأتي لم ولن يَكُن عائقاً في وجهِ ابتسامة الفضّة، فهي تُجيدُ وببراعةٍ إخفاء احزانِها بل تُجسِّدُها بتلكَ الابتسامةِ التي تفوحُ عِطرًا من عيّنيها ليَعُمَّ قلوبَ الناس طمأنينةً وقوة.

اليوم بَلَغت سَيِّدَتي الثمانينَ ولا زالت تَذكر فلسطين كزوجها وابنائها فهي لا تَنسى ولا تغفر ولا تؤمن باربل ولا زفار زيتيم ( مستوطنات اقيمت على ارض حطين وطبريا ) مَثَلُها مَثَلُ مِئَة وثلاثين ألف فلسطيني يَقطُنونَ المخيم في يومنا هذا.