من المسلّم به أن الشعر هو إبداعٌ وخلقٌ وابتكارٌ لوحدة إيقاعية، ولبناء لغة شعرية جديدة تحافظ على المقومات الأساسية للشعر، وتستجيب لمتطلبات الحياة العصرية، كون الشعر يُشرق بعد عملية ولادة طبيعية تتضافر فيها كل طاقات الإنسان الخلاّقة لتصنع من اللغة كائناً حياً ينمو في قالب متناسق ومتناغم، يجد انعكاسه في ذهن القارئ وخياله، وفي هذا يقول الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي: إن الشعر الحديث والمعاصر هو أداتنا لمحاورة الكون، وتحقيق الانسجام بيننا وبين نواميسه، وبأنه اللغة التي يصنعها البشر ليمتلكوا بها الكون عن طريق معرفته، لأنه ذاكرتنا ووسيلتنا إلى البقاء داخل تاريخ جنسنا واستعادة الطمأنينة في الإحساس..
أمّا صاحب كتاب العمدة فيقول: إن بنية الشعر في أربعة: لفظ ومعنى ووزن وقافية.. وما سُمي الشاعر شاعراً، إلاّ لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، فإذا لم يكن عنده توليد معنى، ولا إختراع صورة، ولا إبتداع لفظة، كان إسم الشاعر عليه مجازاً..
وهنا بيت القصيد في نوعية العلاقة التي تربطنا سلباً أوإيجاباً، بذاك الذي نعتبره «أبو اللغة وأمها» الذي يأتي بالطريف والغريب والبديع ويلبّي نداءات شيطان الشعر، ويجعلنا نسبح معه في عالم الخيال.. لذا يذهلنا بعض أدعياء الشعر، ولا يُعجبنا تنظيرهم الذي يثير الهلع حول الشعر والشعراء، والذي غدا زمهريراً، لا يحترم قانوناً ولا يقيم إعتباراً للجمال الحقيقي، ما دامت (الفوضى) وبالطبع ليس الخلّاقة، مدار النشاط الذي يلهج به الأدعياء.. هذا الضجيج والصراخ والسفسطة والتفاهات المتساقطة في الفراغ، ذكّرتنا بثورة حقيقية أحدثها إبن طباطبا في الدوائر النقدية والأوساط الأدبية في نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع للهجرة، وكان الرجل حريصاً على الشعر الموزون المقفّى وإن لم يضع له ضوابط وتركه لإستحسان الذوق الخاص، وفي ذلك قال: «والشعر على تحصيل جنسه، ومعرفة إسمه متشابه الجملة، متفاوت التفضيل، مختلف كاختلاف الناس في صورهم وأصواتهم وعقولهم وحظوظهم» وشمائلهم وأخلاقهم، فهم متفاضلون في هذه المعاني، وكذلك الأشعار هي متفاضلة في الحسن على تساويها في الجنس، ومواقعها من إختيار الناس إياها كموقع الصور الحسنة عندهم، واختيار لما يستحسنونه منها، ولكل إختيار يؤثره، وهو، يتبعه، وبغية لا يستبدل بها ولا يؤثر سواها» وهو بذلك يرفض شعرالقشور والطلاء، شعر الحواس الضالة والمدارك الزائفة، ولنقل بصراحة: «الشعر السائب» أما موسيقى الشعر عنده فهي بمثابة النغمات الوترية.. والشعر في النتيجة هو لطفٌ وتخيّلٌ ودقّة معنى، وإمتاع، وهو كائن حي يتفاعل مع محيطه، فيثور ويرعد حيناً، ويترقرق ويعد ويناجي حيناً آخر..وهو كما قال أحد الشعراء:
إذا الشعر لم يهززْك عند سماعه
فليس خليقاً أن يُقال له شعر
نزار سيف الدين
|