"من Cartel 'Phoebus' إلى حقيبة 'Hermès': كيف تُهندس الرأسمالية رغباتنا"

ي الأسابيع الأخيرة أثار صناعيون صينيون عاصفة على منصات التواصل الاجتماعي عبر مقاطع فيديو تكشف ما أُطلق عليه "فضيحة الماركات العالمية" حيث قدموا تحليلات دقيقة لتكلفة تصنيع سلع تُباع بأسعار خيالية. وكانت حقيبة "بيركين" من متجر "هيرميس" الباريسي أحد أبرز الأمثلة الصادمة.

تباع هذه الحقيبة الجلدية بمبلغ 38 ألف دولار، لكن عند نزع الشعار المذهَّب، كما فعل العمال في الفيديوهات، تتحول إلى مجرد جلد "توجو" إيطالي تكلفته 450 دولارا، وخيوط فرنسية تكلفتها 25 دولارا وأكسسوارات فولاذية تكلفتها 150 دولارا، ليصل إجمالي التكلفة بعد احتساب التصنيع إلى 1400 دولار فقط. وهذا الفارق المهول هو ثمن الهالة السحرية التي يمنحها الشعار، أو كما صرّح أحد المصنّعين "إن العلامة التجارية وَهم يجعلك تدفع ثمن هواء مُذهّب".

لكن هل الأمر بهذه البساطة أم أن هناك ما هو أعمق؟ وراء هذه الأرقام تكمن استراتيجيات معقدة تحوِّل السلع إلى رموز للمكانة الاجتماعية. هذا ما سنحاول مقاربته داخل عالم هندسة الاستهلاك.

"فيبوس" والمصباح المئوي
في العام 1925، تأسس في مدينة جنيف كارتيل تجاري يُسمى "فيبوس" (Phœbus)، وقد ضم شركات عالمية في أوروبا والولايات المتحدة، من بينها أوسرام وجنرال إلكتريك وفيليبس. واتفقوا على خفض عمر المصابيح الكهربائية إلى 1000 ساعة فقط. ليحققوا بذلك أرباحًا إضافية عبر إجبار العالم على استهلاك ضوءٍ أكثر ظلمة! وعلى الرغم من حل الكارتيل مع اندلاع الحرب العالمية الثانية إلا أن هذه الاستراتيجية لم تمت. بل تحولت إلى دستور الصناعة الحديثة: صنع منتجات بعمر افتراضي أقل كل مرة بهدف زيادة الاستهلاك.

لكن في محطة إطفاء "ليفرمور" بكاليفورنيا، هناك مصباحٌ كهربائي استثنائي؛ "المصباح المئوي" الذي صنع عام 1901، أي قبل ثلاثة عقود من ولادة كارتيل فيبوس، وما زال يضيء منذ 120 عامًا، ولم يُطفأ إلا في مناسبات نادرة. هذا المصباح يقف شاهدًا على "استراتيجية فيبوس" التجارية التي تبنَّتها لاحقًا العديد من القطاعات الصناعية، حيث تتجلى بوضوح في مجالات مثل صناعة الملابس والأدوات الكهربائية والسيارات.

مثلث التصميم الحديث للسلع
أي شخص اليوم قد يلاحظ انخفاضًا في جودة السلع مقارنةً بما كانت عليه قبل عشرين أو ثلاثين سنة، فلم تعد تباع تلك الكنزة الصوفية التي تنسى متى اشتريتها، أو السيارة التي بالكاد يتضرر هيكلها عند الاصطدام. لفهم هذا التراجع في الجودة، علينا النظر إلى مثلث التصميم الحديث للسلع، الذي يقوم على ثلاثة أركان:

1.  الوظيفة: احتياج المستهلك الحقيقي (منتَج يدوم).

2.  القابلية للتصنيع: التوازن بين التكلفة والمتانة.
3.  المظهر: جمالية المنتج.

ويمكن القول إن التصميم الجيد للمنتج يحقق توازنًا بين هذه العوامل الثلاثة حيث أن "الوظيفة" أي حاجة المستهلك هي قاعدة الهرم. اليوم انقلب هذا المثلث رأسًا على عقب، وخير مثال على ذلك حذاء "نايكي" الرياضي. ففي الماضي كان سعره أعلى لكنه صُمم ليدوم، أما اليوم فمواده أقل جودة وتصميمه أقل متانة وراحة، ورغم ذلك تضاعفت أرباح الشركة. فكيف حدث ذلك؟

لقد ضحَّت "نايكي" (كما فعلت غيرها من الشركات) بالوظيفة والجودة لصالح سهولة التصنيع والمظهر المُوجَّه بالموضة بغض النظر عن الجمالية الفعلية والراحة. بينما حوَّلت جزءًا كبيرًا من ميزانيتها إلى حملاتٍ دعائية تُروِّج لفكرة أن هذا الحذاء هو "ضرورة عصرية"!

الهندسة الاستهلاكية والتقادم المبرمج
تلقي بعض الشركات باللوم على المستهلك، مُدَّعيةً أنه المسؤول عن تدهور الجودة، بحجة أنه "لا يريد منتجًا يدوم، بل يُفضِّل أسعارًا منخفضة". لكن هذه حجة واهية، فثقافة الاستهلاك السريع التي ترفع شعار "الجديد هو الأفضل" ليست سوى نتاج هندسةٍ تسويقيةٍ مُمنهجة، حيث تُنفق الشركات نحو 90 بالمئة من ميزانياتها على إعلاناتٍ قَلما تتحدث عن الجودة.

إلى جانب تقليل جودة المنتجات، تخوض الشركات حربًا خفيةً ضد حقوق المستهلك عبر تعمد تعقيد إصلاح الأجهزة. خُذ مثالًا شركة "آبل": لسنواتٍ عارضت قوانين الحق في الإصلاح بحجة حماية الأسرار التقنية، لكن تحت ضغط الناشطين، وافقت أخيرًا على بيع أدوات لفتح أجهزتها. ليكتشف المستخدمون لاحقًا أن فتح منتجات "آبل" يشبه تفكيك قنبلة موقوتة! فحتى باستخدام الأدوات الرسمية، قد تُحطم الشاشة لمجرد محاولة تغيير القرص الصلب في جهاز iMac.

الأمر لا يتوقف هنا. "استراتيجية فيبوس" عادت من جديد بحلة تكنولوجية مع ما يعرف بـ"التقادم المبرمج"، فبعض شركات الهواتف تُبطئ أجهزة المستخدمين عبر تحديثاتٍ متعمدة، أو توقف دعم الأجهزة القادرة على العمل لعقدٍ كامل مثل IPhone 10 (مع تغيير البطارية فقط في منتصف هذه المدة). النتيجة؟ هاتفك يعمل بكفاءة 70 بالمئة بعد عامين بسبب تباطؤ البرنامج.. فلا بد من ترقية جهازك!

السؤال المحوري: هل نحن حقًّا نرفض هاتفًا قادرًا على الأداء لعشر سنوات، ونركض وراء سراب "الجديد هو الأفضل"؟ أم أننا مضطرون لذلك؟

العلامات التجارية وأوهام المكانة الاجتماعية
في الاتحاد السوفيتي، اختفت العلامات التجارية تماشيًا مع فكرة الاشتراكية، لكن النتيجة كانت مُنتجاتٍ رديئةٍ بسبب غياب المسؤولية. اليوم، نرى مثالًا مشابهًا في المنتجات التي تُصدِّرها الصين إلى الدول النامية، حيث تُلصَق عليها أي علامة تجارية مطلوبة.

لكن بالمقابل، تتبع الصين سياسةً صارمةً بشأن معايير الجودة للمنتجات التي تبيعها في السوق المحلي أو تُصدِّرها إلى الدول الغنية. كما أنها حققت تقدمًا كبيرًا في جودة صناعة السيارات، حيث تُنتج سيارات فاخرة بمساعدة مُصمِّمينَ أوروبيين.

العلامات التجارية ضرورية، فهي تضمن جودة المنتج وسلامته. وقد يظن الكثيرون أن الطبقة الثرية تُفضّل الملابس المليئة بالشعارات الفاخرة كـ"غوتشي" أو "لوي فيتون"، لكن الواقع عكس ذلك! الأغنياء يختارون ملابسَ أنيقةً وذات جودة عالية بلا شعاراتٍ ظاهرة، حتى لو كلفتهم أضعاف الثمن. مارك زوكربيرغ ارتدى لسنوات قميصًا رماديًا بـ400 دولار من علامة "برونيلو كوتشينلي"، بينما تُباع نسخة "بولو" من "رالف لورين" بـ1,700 دولار مع إخفاء الشعار عمدًا. أما العلامات الصارخة على الحقائب والأحزمة، فهي مُصمَّمةٌ خصيصًا للطبقة الوسطى لكي تشتريها بالدين عبر بطاقات الائتمان، وهي إذ تتماهى مع المشاهير الذين يُروِّجون لهذه المنتجات، تنسى أنَّ هؤلاء يتقاضون أموالًا مقابل الإعلان.

بين قصتَيْ "فويبوس" و"هيرميس"، وبين هندسة الاستهلاك وأوهام المكانة الاجتماعية لدى الطبقة الوسطى، لا أظن أن "فضيحة الماركات العالمية" التي أطلقها بعض الحرفيين الصينيين كافيةً لتغيير ثقافة الاستهلاك.